الاثنين، 2 نوفمبر 2009

هل تراجع التوريث في مصر؟

د / عبــدالحليم قنـديل

في الوقت الذي وصلت فيه الحملة المطالبة برحيل مبارك إلى ذروة غير مسبوقة، وبصورة صريحة على طريقة 'كفاية' وأخواتها، أو بصورة ضمنية على طريقة مبادرة الأستاذ هيكل، وإلى حد أن إعلاميا مصريا مقربا من عائلة مبارك طالب بترتيبات خروج آمن للرئيس من قصر الحكم، وبتمكينه من المشاركة في اختيار خليفته توقيا لإجراءات محاكمة محتملة، في هذا الوقت الذي تبهت فيه صورة مبارك الأب حتى لدى أنصاره، حرص الرئيس الثمانيني على إيحاءات معاكسة بالضبط، وكأنه يريد أن يقول أنه لايزال حيا، وقادرا على إصدار القرارات، ومستعدا للبقاء في الرئاسة إلى يوم يبعثون، وإلى حد التضحية بطموح ابنه في التوريث طلبا للتمديد لشخصه.

وقبل المعلومات وبعدها، تبدو الحوادث الجارية

دالة بذاتها، تأمل ـ مثلا ـ قرار مبارك الأخير بقبول استقالة وزير النقل محمد منصور إثر حادث قطار العياط، بالطبع لايوجد وزير يستقيل في مصر من تلقاء ذاته، وقد أوحى إلى منصور بتقديم استقالته، وكان المشهد قبلها بساعات موحيا بالعكس، نواب الحزب الحاكم اعتدوا بالضرب على كل من طالب بإقالة وزير النقل، وكان الوزير ـ في جلسة البرلمان ـ يبتسم متشجعا بالذين يقاتلون من أجله، وحين أقيل الوزير، صمت الضاربون بدف الوزير، بل وتسابقوا إلى الإشادة بقرار مبارك إقالة الوزير، فليس للحزب الحاكم نواب بالمعنى المفهوم، بل ثمة شك في وجود الحزب الحاكم من أصله، فنحن بصدد خداع بصري، وضجيج مفتعل عن حزب وعن نواب، بينما القصة كلها لاتعدو كونها حفلا تنكريا، تلبس فيه العائلة مسوح الدولة، وتتزي بأقنعة تخلعها عند اللزوم، وهو ما جرى بالضبط في حادث الوزير، ثم افترض جدلا أن الوزير، يستشعر المسؤولية عن كوارث تحل، فلماذا لم يستقل ـ مثلا ـ مع كارثة عبارة ممدوح إسماعيل المقرب من عائلة مبارك، والتي راح ضحيتها ما يزيد عن ألف مصري، بينما ضحايا حادث قطار العياط أقل من عشرين، الجواب ـ بالطبع ـ ليس في ضمير الوزير، بل عند مبارك المسؤول عما جرى قبل الوزير، فالوزراء في مصر ـ بتعبير شهير ليوسف والى ـ هم مجرد 'سكرتارية' للسيد الرئيس، والرئيس في مصر ـ بحسب الواقع والدستور ـ هو الذي يعين رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم ويقيلهم عند اللزوم، وقد أبدى الرئيس مبارك قدرا هائلا من اللامبالاة مع توالي كوارث نظامه، ولم يقل وزيرا ولا خفيرا، فقط أراد ـ بإقالة الوزير ـ أن يقول 'نحن هنا'، أراد الرئيس أن يقول 'أنا لازلت الرئيس'، وليس مجرد ظل شبح ترك الأضواء على خشبة المسرح.

وفي تصريحات لرئيس الوزراء أحمد نظيف خداع صور متصل، قال نظيف : أنه لم يستقر بعد على ترشيح مبارك لرئاسة سادسة، أو 'إمكانية' ترشيح نجله جمال مبارك، ترك الباب مواربا، لكن مقصورا على الاختيار الثنائي بين الأب والابن، وربما أراد أن يرفع عن نفسه تهمة شاعت في أجواء الريبة المتزايدة بالقرب من قصر الحكم، فقد نقل عن وزير النقل المقال ـ محمد منصور ـ أنه دخل في المحظور في جلسة فضفضة خاصة جدا، وأنه رأى في أحمد نظيف شخصا يصلح للرئاسة خلفا لمبارك، مارس الرجل حقه في إبداء رأيه من وراء ستار، وعلى سبيل السهو والنسيان، وفي قصة تتحدث عنها مصر كلها، فأطيح به عقابا على التجاوز في حق صاحب العزبة، ويبدو أن نظيف فهم الإشارة، وأراد أن ينجو بنفسه من عواقب الجدال المحتدم داخل عائلة مبارك، وأن يتوقى دواعي غضب الرئيس القائم وكيد الرئيس المحتمل. وفي قلب الدائرة، يبدو الرئيس مبارك كأنه الجنرال في المتاهة، مضغوطا محشورا بين نفوذ الجيش القديم ونفوذ العائلة المستجد، بين رغبته الذاتية المدعومة برغبة المؤسسة، ودواعي وعواقب طموح الابن المشمول برعاية الأم، ودعونا نتذكر طريقة إجابة مبارك على أسئلة مصير الحكم في زيارته الأخيرة لواشنطن، والتي تواقتت مع زيارة موازية لنجله إلى مهبط الوحي ذاته، فقد بدا مبارك في حيرة من أمره، وبدت إجاباته زائغة وحذرة في حواره مع تشارلي روز على محطة تليفزيونB.B.S ، بدا حذرا في الحديث عن فرص تولى نجله للرئاسة من بعده، وحذرا أكثر في الحديث عن موقف المؤسسة العسكرية، وبعد العودة من واشنطن، بدا مبارك كأنه يسترد عرشه من نجله متزايد النفوذ، أكثر من زياراته لوحدات وأسلحة الجيش، وحرص على تكثيف نشر صوره محاطا بجنرالاته، ثم تقدم خطوة أبعد في اجتماع شبه سري مع عدد من قيادات حزبه الحاكم، وكرر عبارته الشهيرة 'أنا باق معكم حتى آخر نفس'، ثم أطلق عبارة بدت هي الهدف من اللقاء كله، قال مبارك 'أن دول المنطقة لايصلح لها سوى الرئيس العسكري'، وهو ما فهم على النحو التالي، وهو أنه يعتزم ترشيح نفسه مجددا لرئاسة سادسة في 2011، ورغم أن عمره وقتها ـ إن ظل حيا ـ سيصل إلى 83 سنة، ثم شفع رغبته بحسم جدل كان مثارا حول التبكير بحل مجلس الشعب الصوري، وكان النجل جمال مبارك وجماعته يضغطون من أجل الحل المبكر، وخشية أن يحدث مكروه مفاجئ للرئيس الأب تفوت معه فرصة الابن في التوريث الرسمي، وهو ما بدا واردا مع امتناع الرئيس الأب عن التوقيع على قرار الحل، وبحسب المعلومات المتاحة، فقد تشجع الرئيس الأب بالتفاف الأجهزة الأمنية الرئيسية الثلاثة حوله، وهي الجيش والمخابرات وقوات وزارة الداخلية، ورغبتهم في حصار نفوذ الابن ومماليكه من مليارديرات جماعة البيزنس، ونصحهم للرئيس الأب بالاستمرار حتى لا يهتز الاستقرار، والتوصية بحصر اهتمام المؤتمر السنوي للحزب الحاكم في تفاصيل تنفيذية، وعدم التطرق ـ بالمرة ـ لتحديد اسم مرشح الحزب الحاكم للرئاسة، وهو ما أكدته تصريحات متعمدة لصفوت الشريف الأمين العام للحزب الحاكم ورجل المخابرات المقرب من الرئيس الأب، وكان مغزى الرسالة ظاهرا، فقرار الرئاسة يتخذ في مكان آخر، وليس من جماعة الحزب التي يسيطر عليها نجل الرئيس.

وبالجملة، يبدو تيار الحوادث والعواقب مؤديا إلى النتيجة التالية، وهي تزايد فرص التمديد للأب مقابل تراجع فرص توريث الابن رسميا، بل ونقل عن الرئيس مبارك نفسه أنه يخشى على ابنه إن تولى الحكم رسميا، فقد نجحت جماعات المعارضة الجديدة في جعل خيار التوريث مكروها شعبيا، وتحول النجل إلى 'كارت محروق'، وتتصور جماعة الأب الأمنية أن الفرصة مواتية لهجوم معاكس، تستفيد فيه من سوء السمعة السياسية للابن، وتضيف رصيدا لحساب الأب الذي بدا لسنوات أنه 'خارج نطاق الخدمة'، وفي السيناريو فصول يتوقع تتابعها، فقد يلجأ الرئيس ـ المستفيق لعرشه المهدد ـ إلى قرارات تثبت قوة قبضته، كأن يجري تعديلا وزاريا موسعا، أو أن يأتي بوزارة جديدة على رأسها جنرال، أو أن يعين نائبا للرئيس، وقد يكون بوسع الرئيس ـ بمعونة المؤسسة ـ أن يقلص نفوذ ابنه الطامح، وأن يوقف مشروع الابن بتحويل ما تبقى من شركات القطاع العام إلى صكوك، ومنحها للمواطنين كعلاوة توريث، لكن المشكلة تبقى معضلة، والرغبة في تحسين صورة حكم مبارك تبقى مستحيلة التحقق، فقد فات أوان الإصلاح بالقطعة، ثم أن رغبة الأب في التمديد وتجديد أوراق اعتماده الرئاسي تتطلب دفع فواتير باهظة، أولها أن يواصل السعي لخدمة إسرائيل كسبا لرضا البيت الأبيض، وبالطريقة ذاتها التي جرت قبل استيلائه على الرئاسة الخامسة في ايلول (سبتمبر) 2005، فقد افتتح مبارك قبل الموعد المقدور ـ بعامين ـ مزادا كبيرا لخدمة إسرائيل، وقع على اتفاق 'الكويز' بعد رفضه لثماني سنوات قبلها، وأطلق سراح الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام بعد رفضه لثماني سنوات قبلها، وأعاد السفير المصري لإسرائيل، وأرسل سفيرا ـ قتل فيما بعد ـ إلى العراق تحت الإحتلال الأمريكي، ووقع الإتفاق الأول لتصدير الغاز المصري لإسرائيل، باختصار، كان عليه أن يدفع ' الجزية السياسية ' للباب العالي في تل أبيب وواشنطن، وهو السيناريو الذي يكرره مبارك الآن بالحرف، فقد وضع الأمن المصري في خدمة أمن إسرائيل، وإفتعل القصة المسماة ' خلية حزب الله'، وشدد الحصار لخنق غزة، ووضع ثقله مع إسرائيل ضد حماس ولنصرة عباس، ووقع الإتفاقين الثاني والثالث لتصدير الغاز المصري لإسرائيل، والبقية تأتي مع إقتراب موعد تجديد الرئاسة، وهو ما يضيف لسوء سمعة حكمه السيئة أصلا، أضف إلى ذلك تردي أحوال الداخل، الانسداد السياسي والاعتقالات وتزوير الانتخابات، وضغوط نقص الموارد المالية، وتدهور الأحوال المعيشية لأغلب المصريين، وتجريف ثروة البلد لحساب قلة محظوظة من حول بيت الرئيس، والإحتقان الإجتماعي المنذر بلهيب شرر تحت الرماد، وفي دراما الأقدار الإغريقية، ينتهي مبارك الأب إلى وضع المتاهة، يخشى أن ينتهي إلى قفص الإتهام إن ترك الحكم حتى لابنه، ويفضل أن يبقى في القصر حتى ينتقل إلى القبر فلا يسائله أحد، يهرب من حساب الدنيا إلى أن يجيء موعد الآخرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق