الجماعات السياسية والقوى الوطنية والقومية والإسلامية المصرية مشغولة في البحث عن رئيس بديل لكل من الرئيسين الحاليين.. الرسمي والفعلي. وذلك في سياق محاولات قطع الطريق على مخطط التوريث الذي هيأت له أجهزة الدولة والحزب الحاكم فرص المرور والعبور. وأجهزة الدولة والحزب تخضع في إدارتها لتكتل أصحاب المليارات.
وهو في أغلبه وافد وثرواته ومشروعاته مجهولة المصدر، وغير معلومة الأصل. وهذا الانشغال تقف وراءه نوايا طيبة كثيرة. وقد يؤدي إلى تأجيل التوريث، فتتهيأ له فرص أفضل وأنجع. ومن بين أصحاب النوايا الطيبة من يرى أن نار التمديد للأب أخف ضررا من جنة الابن. والتمديد ينشأ ويترعرع في نفس البيئة التي نشأ وترعرع فيها التوريث. ألغت النظام الجمهوري وجعلت منه نظاما عائليا، ومن خلق هذه البيئة وصاغها
كان وما زال مبارك الأب، وما كان للإبن أن يتشبث بطموحه المريض في الوراثة لولا ما قام به الأب وإجراءاته وقراراته، فتورطت عائلة مبارك بكاملها في خطيئة لا يغفرها الله ولا التاريخ. التمديد للأب يعني القبول بتوريث مؤجل إلى حين، حيث يبقى الابن رئيسا فعليا، ويزداد نفوذه، وتتسع دوائر تحالفاته الداخلية والخارجية.
والمصريون المحاصرون بخيارات تسد في وجوههم أبواب ومنافذ التداول والتغيير السلمي يدورون في دوامة اقتراحات ومشروعات تتعامل مع مشكلة الرئيس البديل كأنها مجرد وظيفة شاغرة تحل بمجرد إيجاد الشخص المناسب وقبوله. مع أن الأزمة أعمق من هذا بكثير. لا تنفرج بوجود الشخص أو بقبوله، والمشكلة هي ذلك المنطق المتهافت، الذي لا يعترف بغير مبارك الأب أو الابن، ويمنع أي أحد من الاقتراب من منصب الرئيس أو نائبه. ويقوم هذا المنطق على سحب الجدارة من جموع الشعب بقواه وفئاته وطبقاته. فمبارك الأب هو الذي أوحى للوجدان العام بعدم صلاحية المصريين، دون استثناء لمنصب الرئيس أو نائبه. وقد نشرنا من سنوات على هذه الصفحة ما جاء على لسان حسني مبارك في زيارة له للندن في تسعينات القرن الماضي. فحين سئل عن سبب عدم تعيين نائب له رد قائلا: 'مش لاقي واحد قلبه على مصر' واستمسك برأيه إلى أن اكتشف أن هناك واحدا لا غيره 'قلبه على مصر'. وتغيرت قناعات مبارك الأب، بعد أن عثر على 'واحد قلبه على مصر'. وكانت المفاجأة أن هذا الواحد هو ابنه الأصغر. وهو وإن لم يعينه في منصب نائب الرئيس. فقد سلمه الرئاسة، وأصبح في مكانة فرعون الذي قال: 'لي أرض مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي' يشاركه الغنيمة جيش جرار من المليارديرات يتميزون بأن 'قلوبهم على مصر' هم الآخرون. حصلوا على مصر كاملة، وأخذوا ما لم يحلم به أحد، أو خطر على قلب بشر، أو جرؤ عليه مسؤول من قبل.
وإذا كان منطق 'مش لاقي واحد قلبه على مصر' أنتج التوريث. ففي المقابل نجد أن ما هو مطروح من قبل القوى المطالبة بالتغيير قد لا يغير من الأمر كثيرا، إذا لم يأت مصحوبا بآليات تساعد في تنفيذه. إذ لا تكفي الوقفات الاحتجاجية أو الشعارات المعبرة، مهما كانت بلاغتها وحماسة الهاتفين بها. والمطلوب هو أن يصل الحراك الوطني الرافض للتوريث إلى عمق القواعد الجماهيرية، ولا يبقى محصورا في النطاق النخبوي. ورفع مستوى الوعي بأن المطلوب نظام جديد وليس رئيسا بديلا. فقد انتهى النظام الجمهوري الرئاسي إلى صلاحيات شبه مطلقة لحاكم فرد. فعل بمصر ما لم يفعله الاحتلال بها. وترتب على ذلك تلاشي الجمهورية وتحولها إلى النظام الوراثي، الذي نشهد ترتيباته. والنظام البديل الأفضل هو النظام الجمهوري البرلماني. تنكمش فيه صلاحيات الرئيس، فهو يستمد قوته من البرلمان، ومن توازن السلطات والفصل بينها، ومن إنهاء هيمنة السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية على باقي السلطات والمؤسسات. والنظام البرلماني ليس بدعة أو خطر يهدد مصالح المصريين. ومشكلته أنه يحتاج لبيئة ديمقراطية نظيفة، ومناخ للحرية غير ملوث. وإن لم تؤد المقدمات المتداولة في سوق التغيير إلى نتائج في مستواها. فلن تتوفر البيئة المناسبة لإقامة النظام البديل فسوف يعيش الناس عقودا أخرى من الانتظار والتيه.
المطلوب إذن إنضاج صيغة تؤسس لذلك النظام البديل، ونرى النواة في إدارة انتقالية تقوم على أوسع تمثيل للقوى الاجتماعية والسياسية والتيارات الوطنية والقومية والإسلامية والمسيحية والمستقلة. وبذلك تكون تعبيرا عن رغبات ومطالب جموع الشعب المحجور عليها. بفعل أن ليس بينها 'واحد قلبه على مصر'. وهذه المقولة ألغت شعبا يقدر حاليا بثمانين مليون نسمة من الوجود. واستعادة هذا الوجود مرة أخرى ممكن إذا ما ارتكز على الحصيلة التي صنعها الحراك الوطني عبر السنوات الخمس الماضية. وذلك بأن تستخلص منها الإدارة الانتقالية المقترحة القواسم الجامعة بين الفئات والقوى والطبقات على اتساعها. وأن تتيح الفرصة أمامها للمشاركة الحقيقية في صياغة النظام الجديد. وتستفيد من هذه القواسم الجامعة في إعداد برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي، وبلورة دليل عمل يرشد ويوجه النظام الجديد.
التهافت مستمر بالدعوة لتغيير مادة دستورية هنا وفقرة قانونية هناك. وكشف أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة مصطفى كامل السيد في صحيفة 'الشروق' القاهرية مؤخرا خداع هذا التهافت، وفخ الاحتجاج بالدستور والاعتماد عليه سبيلا لخروج مصر مما أسماه أزمة الركود السياسي ، ورأى أن التسليم بأحكام الدستور الحالي يعني استحالة تداول السلطة ، وهذا صحيح لأنه يعني غلق الباب نهائيا أمام ظهور نظام جديد، ولن يغير من الأمر كثيرا، وهذا يجعل من الإدارة الانتقالية أكثر ضرورة. فعلى عاتقها تقع مسؤولية إيجاد البيئة الديمقراطية المناسبة، لتغيير النظام بشكل سلمي. وقد تبدأ هذه الإدارة عملها اعتمادا على مبادئ دستورية انتقالية إلى أن تتهيأ الظروف لانتخاب جمعية تأسيسية تعد دستورا جديدا ودائما يُخرج مصر بشكل آمن من محنتها الحالية . ومن الممكن أن تتكون الإدارة الانتقالية من مئة عضو أو أكثر.
يمثلون تحالفا عريضا لقوى وفئات وطبقات الشعب، الموزعة على الأحزاب والنقابات المهنية . للمهندسين والأطباء والمحامين والصحافيين والتجاريين والتطبيقيين . وأندية القضاة والأكاديميين. وكذا نقابات العمال، والاتحادات الزراعية والإنتاجية. وجمعيات الحرفيين والصناعات اليدوية والتقليدية، واتحادات الطلاب والشباب ، وجمعيات واتحادات المرأة، غير التابعة للإرساليات الأجنبية وجماعات التبشير . ومنظمات وجمعيات النشاط الأهلي غير الممولة من الخارج وروابط وجمعيات العاملين في الإعلام والثقافة والأدباء والكتاب، بجانب ممثلي الصناعة الوطنية من خارج اتفاقيات الكويز، ومن غير وكلاء الاحتكارات الداخلية أو الخارجية. بالإضافة إلى تمثيل الجماعات الجديدة، مثل كفاية و9 مارس و6 ابريل. بهذا التمثيل الواسع يتوفر لهذه الإدارة الانتقالية قاعدة اجتماعية وسياسية وجماهيرية مؤثرة وقوية، وبيئة نظيفة لنظام نظيف.
ونأتي إلى مشكلة الحالة الحزبية والسياسية، ولسوف نجد أن الجماعات الحزبية والسياسية المصرية تنقسم إلى عدة أنواع.. النوع الأول.. جماعات تخلت نهائيا عن الانتماء الوطني وتماهت في المشروع الصهيو غربي. وتعمل على عدة محاور. أهمها المحور الإقتصادي. المحكوم باتفاقية الكويز، وشروط الاستثمارات الصهيونية المصرية المشتركة، وأولويات التعامل. حيث تعطى الأولوية لدعم الصناعات الصهيونية والمستوطنين على حساب المواطنين المصريين. وهذا هو سر مد تل أبيب بالغاز الطبيعي بسعر رمزي، لتشغيل المصانع المدنية والعسكرية، ومنحها الأسمنت وحديد التسليح بثمن رخيص لبناء المستوطنات وإقامة جدار الفصل العنصري بينها وبين الفلسطينيين. والمحور السياسي محكوم بالأجندة الغربية في الحرب على الإرهاب، بمعنى تصفية المقاومة وحصارها وتجفيف منابعها المالية والعينية والتسليحية. إبقاء على الاستيطان وتوفير الأمن والحماية للمستوطنات والمستوطنين. مع عداء مستحكم للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وعدم نصرة المقاومة العراقية.
ويرتكز المحور الثقافي على بث قيم الفتنة والتقسيم والصدام، واعتماد الأيديولوجية الانعزالية، لتزكية الشوفينية والتعصب، وتم ضبط نشاط هذه الجماعات والأحزاب الثقافي والإعلامي على البوصلة الصهيونية. وتركز على التحريض المستمر ضد العرب والمسلمين والأفارقة ومواطني العالم الثالث. وعقل سياسي وحزبي بهذه المواصفات وجد تجسيده في لجنة جمال مبارك، المعروفة بلجنة السياسات عقب استيلائها على الحزب الحاكم، وأضحت جهاز التخطيط والتوجيه الوحيد فيه. وضمت رموز التطبيع والكويز وشركاء المشروعات الصهيونية، ومعهم مروجو الثقافة الصهيونية. وهي مواصفات تسقطها هي وحزبها من الحسابات الوطنية وحسابات التغيير المرتقب.
والنوع الثاني جماعات صغيرة، رديف للحزب الحاكم. وكلها تنتمي إلى الليبرالية الجديدة. وهي غير ليبرالية حزب الوفد الوطنية. أحزاب ليست وحدها. تجد التأييد والمساندة من أفراد وجماعات بعضها منتسب لجمعيات أهلية ومؤسسات صحافية وإعلامية، مثل جمعية جيل المستقبل، وبعضها الآخر يعمل في مركز الدراسات الوطنية. وجمعية جيل المستقبل ومركز الدراسات الوطنية كيانان يديرهما جمال مبارك بشكل مباشر، وبالقرب من هؤلاء عناصر عاملة وفاعلة في إدارة مؤسسة الأهرام وعدد من مطبوعاتها وفي مركز الدراسات الاستراتيجية فيها. بجانب آخرين أعضاء ومسؤولين في جمعيات أهلية لها طابع سياسي وحقوقي تمول من منظمات ومؤسسات أوروبية وأمريكية وصهيونية. وتستقوي بالإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والدولة الصهيونية، ويحتل المستوطن الصهيوني في عرف هذه الجماعات مكانة خاصة ومتميزة. وهي مكانة الشخص الأولى بالرعاية، والأقرب إليهم من مواطنيهم وأشقائهم وجيرانهم وأصدقائهم، وعدد من الليبراليين المصريين الجدد يدير ويعمل في مؤسسات لقياس الرأي العام وشركات العلاقات العامة والإعلان، وهؤلاء لا يختلفون عن الحزب الحاكم وينطبق عليهم ما ينطبق عليه.
النوع الثالث جماعات ضعيفة ومحاصرة وعاجزة مع أنها تمثل تيارات رئيسية ويمثلها أحزاب الوفد والناصري والتجمع والوفاق القومي والعمل الإسلامي المجمد. وهي جماعات رغم ضعفها معنية برفض التوريث وتغيير الحكم الحالي، ويجب استيعابها في الإدارة الانتقالية المقترحة. وهناك نوع رابع وأخير لجماعات لها حضور لكن لا تحمل ترخيصا ولم تنل موافقة لجنة الأحزاب، ونموذجها حركة الكرامة العربية وحزب الوسط الإسلامي واستيعابهم ضروري في الإدارة الانتقالية كذلك. وهذا العرض السريع كشف أن جماعات النوعين الأول والثاني غير جديرة بالتمثيل في الإدارة الانتقالية، لتناقض الأهداف والمصالح والتحالفات، وعدائها المفرط للمصالح الوطنية، وخطرها الكبير على التماسك السياسي والمجتمعي.
والبداية تنطلق من الاتصال برموز القوى والفئات والطبقات، الموزعة على الأحزاب والنقابات والأندية المهنية والعمالية والفلاحية والشبابية، التي عرضنا لها في موضع سابق من هذا المقال. مهمة صعبة لكنها ليست مستحيلة. ويمكن إثراء الفكرة بعودة تناولها والكتابة عنها مرة أخرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق